كونوا مفاتيحاً للخير .. تفلحوا
يشتاق المسلم الصادق لمواسم الطاعات لأنها مكفّرات الذنوب، ويهفو القلب لأغلى موسم وأعلاهم منزلة ، إنه شهر الخير .. شهر الارادة بالصبر والحرمان .. شهر التغيير فى النفس البشرية بالعمل المخلص الدؤوب .. شهر الرحمات والمغفرة والعتق من النار : إنه رمضان الخير ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، فأهلاًً به من ضيف .
إنّ المتأمل لهذا الشهر منذ قدومه وحتى رحيله لايسعه إلا أن يقول أنه شهر التدريب للعقل والنفس والجسم على فعل الخير بل ابتكار كل المفاتيح الممكنة لطرق أبواب الخير .
وكيف لا وهذا الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم يعلّمنا كيف نكون مفاتيحاً للخير فى كل حياتنا حتى مع أعداءنا ، لايملّ ولايكلّ من نشر الخير تعليماً وفعلاً حتى يضرب لنا أروع الأمثال ، ولايفوت القارئ تذكّر ما فعله رسول الخير مع رأس الشر ؛ المنافق عبدالله بن أبى بن سلول رغم أنه لم يكن مؤمناً قط ، بل لم يكن فى قلبه ذرة إيمان كما حكى عنه القرآن بعتاب إلهى لنبيه " ولاتصل على أحد منهم مات أبداً ولاتقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله "
اُنظر للموقف النبوى العظيم من هذا التسامح وهذه الرحمة لرجل منافق حارب الاسلام وكاد المسلمين أشد الكيد .. رجع بثلث الجيش فى غزوة أحد .. صّرح أثناء عودته من غزوة بنى المصطلق ما أورده القرآن الكريم " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " .. بل زاد خاطباً فى قومه وهامساً فى آذانهم "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " ظناً منه أنهم مرتزقة إذا انقطع عنهم الدرهم والدينار ينفضوا عن دعوة الله .. هو المحرك الأساسى لحادثة الإفك التى طالت السيدة عائشة رضى الله عنها وما ترتب عليه من آلام ومعاناة لبيت النبوة على مدار شهر كامل حتى يتنزل الوحى نافياً لهذه الفرية ، والكثير الكثير من الفعل والقول بالتصريح والتلميح ، بالغمز واللمز ..
أى قوة نفسية تلك التى فى رسول الله !! أى قلب نبوى به من التسامح والرحمة ما يجعله يعفو ويصفح ؛ بل ُيلبٍسُ الرجلَِِ المنافقَ قميصه الطاهر كفناً له ، ويستغفر له ويصلّى عليه ويمشى فى جنازته وينزل فى قبره ، ولايستجيب للقوى الشديد عمر بن الخطاب المستنكر لصلاة النبى الجنازة معدّداً له ما فعله المنافق ، بل يبتسم له قائلاً "إنى ُخيّرتُ فاخترت ، لو أعلم أنّى إن زدتُ على السبعين استغفاراً يُغفر له لزدت عليها " .
يا للعجب ! يا للنبوة ! .. لكنها القوة الهائلة التى يحملها للتغيير وفعل الخير ، فاستطاع أن يقيم الدين ويوحّد الأمة ويكون رسولاً للعالمين .
يا ليتنا نتأمل هذا الموقف التى تحار فيه العقول ونستلهم منه العبرة فنفتح للخير أبواباً قد أغلقت بنوازع نفس ونزغات شيطان.
ولاننسى موقف الرسول المصطفى لأهل مكة " ما ترون أنّى فاعل بكم ؟ " . قالوا : خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم . قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " .. يا الله !! .. يتناسى عشرين سنة كلها أذى ومطاردة ، تعذيب وتكذيب .. يفتح خيراً بتسامحه وقولته المشهورة التى تصل الخير بالخير "أقول كما قال أخى يوسف ( لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) ، ويزيد فتحاً للخير بتألفه قلب أبو سفيان فى قولته الشهيرة .. " ومن دخل بيت أبو سفيان فهو آمن " .
ألا يستنهضنا ما سبق أن نصل الأرحام ونصفح ونعفو عن المخطئين ، ونردّ الحقوق لأصحابها ، نعين المظلوم حتى ينال حقه ، ونقف للظالم حتى ينتهى عن ظلمه ؛ وهذا رجل ابن سبيل يقف على رؤوس أناس من قريش يتوسل لهم أن يقفوا معه حتى ينال حقه من أبى جهل الذى ماطله فى ثمن إبل اشتراها منه ،
ومن باب السخرية والاستهزاء بالرجل أشاروا له أن يذهب إلى من يجلس فى مكان بعيد عنهم ، يقصدون بذلك النبى المصطفى المضطهد وقتها من قومه فى مكة ، وهم يعرفون ما يكنّه أبو جهل له من العداوة والبغضاء .. وأخبر الرجل ابن السبيل الرسول المحمدى بشكواه طالباً منه أن يقف معه ، فما كان منه إلا أن قام معه حتى طرق باب أبى جهل ، ولم يقل فى نفسه أو للرجل ما بينه وبين أبو جهل من عداوة واضطهاد!!، وما إن فتح أبو جهل الباب ورأى الرسول آمراً إياه أن يدفع للرجل حقه حتى بُهٍت ، وقال نعم .. لا تبرح حتى أعطيه الذى له ، وانصرف محمد النبى وعاد الرجل يشكر آل قريش أن أشاروا عليه برجل أعاد له حقه ، ولما سألت قريش أبا جهل قال نعم - ويحكم - فوالله ما أن طرق الباب وسمعت صوته حتى ملئت منه رعباً ، ووالله لو أبيت لأكلنى .
نعم إنها دعوة إلى العدل ورد الحقوق إلى أهلها وإنصاف المظلوم والأخذ على أيدى المعتدين ويكفينا ما قاله النبى فى الحديث الصحيح عن حلف الفضول وقد كان فى الجاهلية" لو دُعيتُ به اليومَ لأجبت" .. فى إشارة واضحة للاعتراف بكل ما هو صحيح وصالح فى حفظ الحقوق ولو على أيدى غير المسلمين ، ويدلل ابن تيمية بذلك فى السياسة الشرعية : إنّ الله تعالى ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة ، ولاينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة " .
جُلٌ ما قصدتُ ممّا سبق أن نُحى الخير فى قلوب الناس ونحملهم عليه ونعمل فى الناس قرآن ربنا وسنة نبينا وليس قوله تعالى"فاستبقوا الخيرات " منّا ببعيد ، وهذا قوله تعالى " وافعلوا الخير لعلكم تفلحون "
وحضّ النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك فى كثير من أحاديثه ومنها " تفاءلوا بالخير تجدوه " و " من يتحّرَ الخيرَ يَُعطه ، ومن يتق الشر يُوقََهُ " ..
إنها تذكرة لنا أن ننظر فى أنفسنا أولاً فنعودّها على فعل الخير، ثم فى من حولنا فنصلح بين المتخاصمين وذات البين ، ونصل ما قطعوه ، ونُصلح ما أفسدوه ، نُطعم الجائع ، ونعين المحتاج ، ننصر المظلوم ، نكفل بعضنا بعضاً ، نيسّر على الناس أمور دينها ودنياها ، نتبادل حسن الظن ونذكر لبعضنا الطاعات وندفن ملفات الزلّات حتى يغلب أسلوب التفويت أسلوب الترصد والتصيد وندفع بالتى هى أحسن عملاً بقوله تعالى "واذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً " .
من هنا يبدأ التغيير الذى تحدث عنه رب العزة ..
" إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "
فهيا بنا نُرى الله من أنفسنا خيراً.
مهندس / أسـا مه سـليمـان
Us_soliman@yahoo.com